وداعًا زاهر



مُرٌّ في فمي فلا الناس عندي كالناس الذين أعرف، ولا الطعام كالطعام الذي أعرف، بل ولا الحياة كالحياة التي أعرف.

يوم تختلط فيه المشاعر لدرجة لم يستطع عقلي استيعاب ما حدث، يومٌ ودعت فيه أخاً لا أظن الأيام تأتي بمن يوازيه في قلبي، فهو مستودع أسرار طفولتي وشبابي، وأنا أعرف الناس بما يفرحه ويضحكه، وما يغضبه ويحزنه.

كنت أكبر منه سناً بسنة، وكان أكبر مني بعقله بسنوات.

قلت له يوماً يا زاهر لم لا تؤخر الوتر حتى آخر الليل؛ لأنه كان يصلين بعد نافلة صلاة العشاء؟

فقال لي بلهجة الشخص البسيط: يمكن أنام ياحسن ويفوتني الوتر، واستمر على ذلك طيلة حياته قبل أن يضعف جداً، وأما أنا كنت أصلي الوتر يوماً وأنقطع دهراً .

لما قالها لي لم أستوعب كلامه جيداً حتى أتيته في وقت مرضه لما ضعف عقله، ورأيته فارشاً سجادته يصلي لغير القبلة صلاة لا يعرف كم ركع فيها ولا كم سجد؟

فعدلت سجادته ووجهته باتجاه القبلة، وحينها فقط رأيت رأي العين من كنت أسمع عنهم أن قلوبهم معلقة بالصلاة.

لقد أثارت فاجعة رحيله غصة في الحلق، وانحسارا لمدد أصحابي، وانطفاء لومضة نبل إنساني.

وإذا اجتمع في المرء تعلقه بالصلاة والصيام فرضاً ونافلةً، وحب الخير، وكرامة النفس، والوقوف عند الحق، والصبر على الابتلاء فقد ترك الدنيا وهو على خير -بإذن الله-.

عشر سنين من الابتلاء بالمرض قضاها صابراً لم يشتك لأحد، يشتد به الألم فتنزل دمعته ولا يستطيع أن يخبر بالذي يؤلمه ويصبر على ذلك، ومما يعزيني قول الله عز وجل: {… إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب }، ويسلينا ما جاء في سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نَّ العبدَ إذا سبقتْ له من اللهِ منزلةٌ فلم يبلُغْها بعملٍ ؛ ابتلاه اللهُ في جسدِه أو مالِه أو في ولدِه ، ثم صبر على ذلك حتى يُبلِّغَه المنزلةَ التي سبقتْ له من اللهِ عزَّ وجلَّ ).

قد لا يعني بعض من يقرأ الآن أي أخ و صديق أرثي اليوم، لأنه قد لا يعرفه، ومن يعرفه حق المعرفة قلة من أصدقائه ورفاقه ومحبيه.

الكلمات تتلاشى، والعبارات تتيه ففي فمي ماء.

ومن يك ذا فم مر مريض

يجد مراً به الماء الزلالا

دموع صامتة نزلت لفقد أخ وصديق لم يبق لي سوى تذكُر الذكريات التي كانت تجمعنا في طفولتنا وشبابنا فوق ربع قرن، وما يمكن عمله من أعمال صالحة يكون ثوابها له، والدعاء له.

فاللهم كما جمعتنا في الدنيا اجمعنا في الفردوس الأعلى من الجنة .

رحمك الله يا زاهر والملتقى الجنة -بإذن الله-.

From Blogger iPhone client

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سر مكشوف

كف لسانك