سر مكشوف
قرأت في كتاب البيان والتحصيل لأبي الوليد ابن رشد -والذي شرح وعلل ووجه فيه مسائل كتاب المستخرجة والمعروف بالمسائل العتبية لمحمد العتبي وهومن كتب الفقه المالكي- قصة استوقفتني كثيرًا، وهي قصة يستشهد بها في مسألة الذي يقسم الصدقة يصدق المسكين فيما يدعي من المسكنة والحاجة جاء فيها: قال مالك: زعم لي يزيد بن رومان، أن عمر بن الخطاب خرج يوما إلى خيبر، وأنه يوما لقائل تحت شجرة يستظل بها، إذ جاءته امرأة من العرب- وهو نائم فدنت منه فمست قدمه فنبه، فقال: ما لك؟
ما حاجتك يا أمة الله؟ فقالت: توسمت فيك الخير، وأن أمير المؤمنين بعث إلينا عام الأول- محمد بن مسلمة ساعيا، وأمره أن يأخذ من أغنيائنا ويرد على فقرائنا؛ فجاءنا فلم يعطنا شيئا، وأنا امرأة مؤتمة؛ وقد بلغني أن عمر باعثه إلينا العام، فأحب أن تمشي معي إليه توصيه وتكلمه لي، عسى إن قدم علينا أن يعطيني، فقال عمر: يا يرقا اذهب فادع إلي محمد بن مسلمة، فقالت: إني لم أرد هذا؛ إنما أردت أن تذهب معي إليه، فقال: إن لم يأتنا جئناه؛ فأتاه يرقا، فقال له: يدعوك أمير المؤمنين، فاستنكر ذلك وقال: ما شأنه؟ فقال: ما أدري، إلا أني رأيت امرأة، قال محمد: هي إحداهن؛ فلما جاءه، قال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين- ورحمة الله، فلما سمعت ذلك المرأة، استحيت وجمعت عليها ثيابها؛ فقال له عمر: هل تدري كيف كنا وأنتم قبل الإسلام؟ فقال: لا تعجل علي يا أمير المؤمنين، فقال: إنا كنا أكلة رأس والعرب أعداؤنا من كل ناحية، فقال: يا أمير المؤمنين لا تعجل علي، قال: بعثتك مصدقا على هؤلاء، وأمرتك أن تأخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم، فلم تعط هذه المرأة شيئا، فقال: يا أمير المؤمنين، أما أن أكون تعمدت تركها، فما كان ذلك؛ ولكن عسى أن أكون أخطأتها، أو لم تأتنا، قال: إن بعثتك العام إليهم، فأعطها للعام الأول، وللعام الثاني، ثم قال عمر: الحقي بخيبر، آمر لك.
سبحان الله الذي وفق عمر لن الخطاب أمير المؤمنين وساقه إلى أن جعله يقيل تحت شجرة حتى تأتي امرأة يلطف بها الله ويوفقها حتى فتتوسم فيه الخير فتشتكي له وتطلب منه أن يشفع لها ولأيتامها عند محمد بن مسلمة دون أن تعلم أن هذا الذي تحدثه هو أمير المؤمنين فيوفق الله عمر بن الخطاب ليتعرف حال امرأة مؤتمة من رعيته حتى لا يأتي بتبعة هذه المسكينة وأيتامها.
هذا هو سر الله المكشوف الذي نسمع عنه وربما حصل لأحدنا ولكننا لا نشعر به أو قد لا نستشعره.
قال تعالى:﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾.
قال السمعاني: وقوله: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ﴾ دليل على أن الطاعة لا يؤتى بها إلا بتوفيق الله، والتوفيق من الله: هو التسهيل والتيسير والمعونة.
ولنعلم أن التوفيق محض منّة من الله؛ فرجاؤه وحصوله مقصور عليه سبحانه وتعالى.
إذا لم يكن عون من الله للفتى **** فأول ما يجني عليه اجتهاده
فكما أن العبد مطالب بالسعي والاجتهاد في طلب الخير، فعليه أن يستمد العون من ربه على ذلك، وأن يعلم أنه لا يقدر على ذلك إلا هو؛ فيسأله توفيقه مسألة المضطر، ويعوذ به من خذلانه عياذ الملهوف، فلا عاصم من غضبه وأسباب سخطه إلا هو، ولا سبيل إلى طاعته ومرضاته إلا بمعونته، وبهذا جاء التوجيه النبوي الكريم كما في سنن أبي داوود، قال صلى الله عليه وسلم: دَعَواتُ المَكْروب: اللَّهُمَّ رحمتَك أرجو، فلا تَكِلْني إلى نفسي طَرْفَةَ عين، وأَصلِح لي شَأني كلَّه، لا إله إلا أنتَ».
أي لا تتركني فأضيع، ولا تتركني طرفةَ عينٍ، يعني: لحظة، لا تُفوِّض أمري إلى نفسي قدر ما يتحرك البصر: طرفة عين، وهذا يُعبّر به عن الزمان والوقت القليل جدًّا، فإنَّ العبدَ إذا وُكِلَ إلى نفسه ضاع.
ولاحظوا هنا أنَّه يُعلن عجزه، وأنَّ نفسَه لا تقدر على قضاء مطالبه وحوائجه، وعقَّب ذلك بالفاء: فلا تكلني، فهذه الفاء تدلّ على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، يعني: كأنَّه يقول: أنا لا أتوجّه طالبًا الرحمة من أحدٍ سواك: فلا تكلني إذًا لا تكلني إلى نفسي طرفةَ عينٍ فأضيع، إلى مَن أتوجّه؟ أنا مُتوجّه إليك وحدك، وأطلب رحمتَك، وبناءً عليه: لا تكلني إلى نفسي طرفةَ عينٍ.
هكذا كان حال نبينا صلى الله عليه وسلم وفعله، ومن توفيق الله للعبد أن يقتدي بنبيه وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله وشأنه كله، وأن يستعين بالله ويطلب توفيقه وتسديده وإعانته وصلاحه في شأنه كله.
ربما رأيت يومًا قارئًا نهمًا يلتهم الكتب التهامًا وربما أنه طالب علم إلا أنه لا ورد له من كتاب الله بينما ترى كبيرًا في السن احدودب ظهره لكنه لا يدع ورده من القرآن حتى في سفره، فههنا سر التوفيق من الله المكشوف .
وربما مر بك أن أحدهم سهر الليل ولم ينم إلا سويعات يسيرة ثم فجأة يفتح عينه على صوت أذان الفجر بينما الآخر ينام ساعات كثيرة ولا يشبع ثم إذ به يجمع الصلوات، فههنا سر التوفيق من الله المكشوف .
وربما رأيت إنسانًا في ميزان البشر هو من عباقرة الدنيا وأذكيائها إلا أنه يعبد حجرًا أو شجرًا أو حتى عدمًا بينما تلك العجوز عندنا في جنوب المملكة تبدأيومها بقول لا إله إلا الله محمدًا رسول الله، أصبحنا وأصبح الملك لله، فههنا سر التوفيق من الله المكشوف .
اللهم اجعلنا ممن وفقتهم وتوفقهم لسداد القول والعمل يارب.
تعليقات
إرسال تعليق