بوح من الذكريات 3



لامني بعضهم لما قرأ ماكتبته في المقالين السابقين بأني لم أتحدث عن والدي -رحمه الله-، ولكنهم لا يعلمون أن الإنسان قد ينعقد لسانه عن بث أشجانه أحيانًا كما حدث لأمير الشعراء أحمد شوقي بعد وفاة والده.

صدقوني
لو أمطرت ذهبًا من بعد ما ذهبا
‏لاشيء يعدل في هذا الوجود أبا

رحل أبي وعمري لم يتجاوز الرابعة ودفن في حفر الباطن المدينة التي أحببتها رغم أني لم أزرها، وكيف لي أن لا أحب بلدةً فيها قبرٌ يساوي في نظري الدنيا بأسرها، رحل ولم تكن لي ذكريات كثيرة معه بل لا أذكر شيئًا لضعف ذاكرتي فصاحبكم سريع النسيان، ضعيف الذاكرة، ومع هذا فكيف لا أتحدث عن رجل كنت نطفة في جسده وكان له الفضل بعد الله -عز وجل- في وجودي في هذه الحياة؟ بل كيف لا أتحدث عن رجل كان سببًا بعد توفيق الله ورحمته في صلاح أمري؟ واستقامة ديني؟ ربما يستغرب بعضكم ذلك، ولكنني سأخبركم الخبر لاحقًا.

أبي الذي أحببته وإن لم نصنع الذكريات معًا فنسجت له ذكريات من خيالي، ثم سميت أول أولادي الذكور على اسمه حتى أتذكره عندما يحادثني أحدهم قائلاً يا أبًا عاطف، أراه في كل جدران بيتنا حين أزوره، أشعر أن خطواته مرت من هنا أو هناك.

أبي الذي تكرر في أذني كلام من عرفوه بأنه من أطيب الناس قلبًا، وألينهم خلقًا، رجلٌ بشوش تجد الصدق واللطف في تقاسيم وجهه، ولكنه إذا غضب تحول إلى هزبر جائع.

قالت لي جدتي لأمي يومًا -رحمها الله-: جاء أبوك في إحدى الليالي من سفره فقال لي : أغمضي عينيك، وقام بوضع شيءٍ في أذني ثم قال افتحي عينيك ففتحتها وإذ به يضع لي قرطين من ذهبٍ يقول هذه هديتك ياعمة، وكانت كلما حدثتني عنه تخنقها العبرة ولا أظن أم زوجةٍ تبكي على زوج ابنتها إلا أن له مكانة في قلبها يصعب أن توصف.

نعم رحل والدي فاصطنعت له الذكريات في مخيلتي، ثم لما كبرت بدأت بسماع ذكرياته من أفواه الأهل والأقارب وأصدقاء أبي ممنيًا النفس أن أراه يومًا ما .

لم آنس بأبي، ولكني أنست برؤية عمتي رحمه، وعمتي مرعيه، وعمي إبراهيم حينًا من الدهر وحرصت على البر بهم قدر استطاعتي ثم رحلوا جميعهم -رحمهم الله-. 

أعوام وصل كان ينسي طولها 
‏ذكر النّوى، فكأنّها أيّام‌
‏ثمّ انبرت أيّام هجر أردفت‌ 
‏نحوي أسى، فكأنّها أعوام 
‏ثمّ انقضت تلك السّنون و أهلها
‏فكأنّها و كأنّهم أحلام

لم يبق من رائحة إخوان أبي إلا شقيقه عمي معيض -حفظه الله-.عمي الذي ربى إخواني من أبي، فكان لهم أبًا مكان الأب حتى أنهم لا ينادونه إلا بأبي، عمي الذي هداني ودلني بنصحة وتوجيهه، وأمدّني بماله مقتطعًا جزءًا من راتبه رغم قلته وكثرت مسؤولياته ليعينني به في كل شهر كي أكمل دراستي الجامعية بعيدًا في غربتي عن أهلي .

عمي الذي وقف بجانبي حين زواجي، ومهما ذكرت من وقفاته ونصائحه وتوجيهاته فلن أفيه حقه أسأل الله أن يمد عمره على طاعته فهو كما قال الأول:

علا عن المدح حتى ما يزان به
‏كأنما المدح من مقداره يضعُ

أعود بعد أن شرقت وغربت في حديثي لأقول أني ذكرت لكم أن أبي هو سبب صلاح أمري وقد يستغرب بعضكم؛ لأني ذكرت أنه رحل وأنا ابن أربع سنين وحْقّ لكم ذلك، وأما الخبر فهو أني حينما كنت غلامًا في أواخر المرحلة المتوسطة رأيت والدي ممسكًا بيد النبي ﷺ فجاءا إلي ثم قال لي والدي: يا حسن متى تعقل الله يصلحك؟ ثم ابتسم النبي ﷺ وقال اسمع كلام والدك. صحوت من نومي فلم أصدق أنها رؤيا، وكأني أريد تكذيب نفسي كي أعيش مابقي من حياتي حلمًا، سألت عن أوصاف النبي ﷺ أحد أساتذتي فبشرني حينها خيرًا، وتمنيت لو أن والدي موجود كي أبشره بما من الله به علي مما يفرح الآباء كإكمال الدراسة، وحفظ القرآن، والوظيفة، وولادة الأبناء وتفوقهم…. الخ

ولو أن هذا الموت يقبل فدية
‏فديناه أموالًا كرامًا وأنفسًا

أسأل الله أن يرحم والدي الذي حُرمت نُصحه وتوجيهه حيًا فأكرمني الله بنصحه لي بعد موته، وأسأل الله أن يجمعني به وبالنبي ﷺ وأحبابنا وإخواننا وأقاربنا ومشايخنا وأساتذتنا ومن أحبنا في الفردوس الأعلى ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ” مَن رآني في المنام فسيراني في اليقظة ، ولا يتمثل الشيطان بي ” .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سر مكشوف

وداعًا زاهر

كف لسانك