بوح من الذكريات 2
بدأت وعيي وإدراكي في قرية صغيرة مع أبناء جيل الثمانينات والتسعينات ذاك الجيل الذهبي الذي عانى وكافح، فهو في النهار يذهب للتعلم والدراسة، وفي المساء مابين رعي الماشية ولعب كرة القدم أو بعض الألعاب الشعبية التي كانت تجمعنا، وكان وقت وجبة العشاء في بيت جدي بعد صلاة المغرب؛ لآن النوم بعد العشاء مباشرة، وكانت أجمل لحظات النوم هي التي أنام فيها مع جدتي فوق سطح المنزل أتأمل السماء حتى أنام، وأما الفجر فأعرف قربه حينما أسمع صياح الدجاج الذي كنا نربيه، ثم خفقة أقدام جدي وجدتي يذهبان للوضوء.
كنا ندرس في مدرسة بدر الإبتدائية بالمجاردة نذهب إليها في شاص بحوض مع سائق توفره المدارس لإيصال الطلاب من القرى، وكان يوم سعدنا عندما نستبق للركوب بجوار الباب الخلفي فيسبق أحدنا ويجلس ليشاهد ما في الخارج، ولا يخلو الأمر من بعض الصيحات هنا وهناك.
في مدرسة بدر درسني ثلة من المعلمين الأفاضل، وإن لم يخلد في ذاكرتي منهم إلا بضع أسماء، أذكر هنا أحدهم و مهما كتبت عنه فلن أفيه حقه وفضله على ذاك الطفل اليتيم الذي دخل المدرسة في أول يوم وهو يلتفت يمنة ويسرة فرحًا مع خوف، تم توزيع الطلاب على الفصول فكان فصلي هو فصل أول ابتدائي ب، وكان ذلك في عام ١٤١٣هـ فما إن دخلت الفصل حتى أصابتني الدهشة والصدمة لما رأيته جهاز يشبه الشاشة في الزاوية لم أكن أعرف ماهو، وشيئان مربعان كبيران أحدهما أخضر والآخر أبيض، ذهب كل طالب إلى مقعد ثم في لحظة سرحاني قطع حبل أفكاري صوتٌ يقول اجلس ياولدي ففجعت وارتبكت ثم جلست في أول مقعد ولم أبرح ذاك المقعد طيلة السنة، ثم قال لنا:
السلام عليكم ورحمة الله، حياكم الله يا أولادي أنا أبوكم وأستاذكم الأستاذ صبحي.
أبوكم؟ وقعت الكلمة في قلبي قبل أذني. ثم أكمل قائلا: أدرسكم في هذا الفصل أول ب، وبإذن الله تستفيدون.
فلا والله لم تر عيني مثله حرصًا على طلابه، وتسخيرًا لكل السبل المساعدة على تعليمهم واستفادتهم، فكان أول من عرفنا على الكمبيوتر حيث كان الجهاز المشابه للشاشة كمبيوتر مكتبي، واللوحتان إحداهما سبورة الطباشير والأخرى إبداع من بُنات أفكاره حيث وضع شاشة بيضاء كبيرة فوق السبورة لها أزرار خاصة بجوار مفتاح المروحة تضغط الزر فتشاهد حرفًا أو كلمة لأجل يتعلم الطلاب الحروف والكلمات. كل هذا في عام ١٤١٣هـ قبل انتشار الأمور التقنية.
ماذا عساي أن أكتب وأقول عن الأستاذ صبحي بن ثالبة وهو الذي علمني القراءة والكتابة والحساب، وكان الطلاب الذين درسوا في فصله يعرف تميزهم وتفوقهم، وكان لنا أبًا -كما قال- قبل أن يكون أستاذًا جزاه الله عنا خيرًا، ومما كان يدهشني عند رؤيته هي تلك الأناقة ورائحة العطر التي نشمها من بعيد فنعرف أنه مر من هنا أو هناك.
أكتب هذا وأنا على يقينٍ أنه لا يتذكرني ولا يتذكر هذه الأحداث البسيطة في نظره ولكنها كانت كبيرة في بصر طفل في السادسة من عمره، ولذلك يا معلمي الصفوف الأولى احرصوا على غرس القيم في نفوس طلابكم فالطالب الصغير طوع يدي أستاذه سيقتدي بأستاذه بعد والديه، وتأكد أنه لن ينس فعلك أو قولك أو تعاملك مهما طوت السنوات من عمره.
نرجع لحديثنا فأقول: وبعد تعلم القراءة كنت أحاول قراءة ما أراه مكتوبا على أي شيء تقع يدي عليه علبة بيبسي، أو صابون، أو زيت طبخ…الخ مما هو متوفر بين يدي، ولم أكن في المرحلة الابتدائية أدري أن هناك كتب غير كتب الدراسة.
أنبه أن هذا الحب للأستاذ صبحي لا يجعلني أهظم حق غيره من أساتذتنا الذين استفدنا منهم في مراحل الدراسة الابتدائية كمدير المدرسة الأستاذ غازي بن حمزه، ثم الأستاذ علي بن عبدالرحمن سردة وهو رجل فاضل على قدر من الخلق والحكمة في التعامل مع الطلاب، والأستاذ محمد بهلول أستاذ الرياضيات، و الأستاذ عبدالله صيدان رحمه الله أستاذ الفنية وصاحب الريشة الجميلة والقلب الطيب والابتسامة الدائمة، والأستاذ علي ناصر أستاذ الرياضة وحبيب الكل، والأستاذ حسن محمد مدرس مواد الدين…الخ من المعلمين الأفاضل الذين خانتني الذاكرة عن ذكر أسمائهم حفظ الله الحي منهم، ورحم الله الميت.
ارجع زمان الأمس من صفحاتي ما أجمل الأيام بعد فوات
ذكرى يعود إلى الفؤاد حنينها دوماً إذا ذاق الفؤاد أسات
زمن تولى من ربيع حياتنا في ظله ما أجمل الأوقات
نلهو ونمرح والسعادة عندنا ما أصدق البسمات والضحكات
نجري ونجري ليس ندري أنها تجري بنا الأعمار في الساعات
ونلاعب المطر الخفيف إذا أتى وعلى اليدين تساقط القطرات
نبكي ونضحك تلك حال طفولة ونصدق الأفعال والكلمات
ما أجمل الأيام تمضي سرعة زمن الصفاء يمر في عجلات
الأبيات لشاعر لم أجد أثرًا لاسمه.
تعليقات
إرسال تعليق